بعد أربع سنين من السيطرة العثمانية على القدس، اعتلى العرش السلطان سليمان القانوني (الطويل)، ابن السلطان سليم فاتح القدس، وذلك سنة 1520م، وقد وضع نصب عينية النهوض بالقدس من جديد، مبتدأ بذلك المرحلة الرابعة من التاريخ الذهبي للمدينة. أول مشاريع السلطان (حكم 1520-1566م) كانت ترميم النظام المائي وبناء الأسبلة وترميم الحرم الشريف، وخاصة قبة الصخرة، وترميم وتحصين القلعة، متوجا ذلك بإعادة بناء الأسوار لحمايتها من الأطماع الغربية وهجمات العربان، بعد تجاهل مملوكي للسور دام أكثر من قرنين ونصف، ولا ينطبق هذا التجاهل على القلعة التي شهدت أعمال بناء وتحصين كبيرين خلال فترة المماليك. إن أسوار القدس الحالية، وغالبية بواباتها المستعملة، مازالت دون أي تغيير يذكر تحمل بصمات السلطان سليمان القانوني. استمر مشروع بناء التحصينات، المشكل من الأسوار والأبراج والبوابات والقلعة، مدة خمس سنوات (1536-1540م) ويذكر بأن السور يحتوي على 34 برجا حصينا ويبلغ طوله حوالي أربعة كيلومترات، ومعدل ارتفاعه حوالي 12 مترا. لم يقتصر نشاط السلطان على التحصينات، بل تعداها إلى إعادة إعمار وترميم النظم المائية للمدينة والقادمة من منطقة العروب وبرك سليمان الواقعة إلى الجنوب من مدينة بيت لحم والمعروفة باسم "قناة السبيل"، حيث نشر كذلك ستة أسبلة في المدينة، خمسة منها داخل الأسوار، وواحد خارج المدينة عند الزاوية الجنوبية الغربية لسور المدينة والمسمى بـ"سبيل بركة السلطان"، وقد بنيت جميع هذه الأسبلة العام 1536م، كما رمم ووسع بركة السلطان. وشهد الحرم الشريف مشروعا شاملا للترميم، تمثل بترميم شامل لقبة الصخرة المشرفة، وكسى جدرانها الخارجية ببلاط القاشاني والرخام مستبدلا بذلك الفسيفساء، وجدد ثلاثة من أبوابها الأربعة، كما كسى قبة السلسلة المجاورة بالقاشاني، وساهم بترميم المسجد الأقصى.
وساهمت زوجته روكسلانة، المعروفة باسم خاصكي سلطان او خرم، الروسية الأصل (على أغلب الروايات)، من طرفها أيضا ببناء مؤسسة اجتماعية (تكية) عظيمة وقفتها العام 1551م على الحجاج والزوار والفقراء، وهي عبارة عن مجمع ضخم ضم مسجدا وخانا ورباطا ومدرسة ومطبخا وفرنا وسبيلا ومخازن، لتصبح أهم مؤسسة خيرية في فلسطين قاطبة، وأوقفت عليها عدة قرى ومزارع منتشرة في سوريا وفلسطين، أضاف عليها السلطان المزيد من الأوقاف بعد وفاة زوجته، وهي مازالت تحمل اسمها حتى الآن "خاصكي سلطان" او "التكية" وتستخدم دارا للأيتام الإسلامية ومدرسة صناعية وأخرى أكاديمية. إن وصف الرحالة أوليا جلبي في كتابه سياحتنامه سنة 1672م لأكبر دليل على ما وصلت إليه القدس في الجزء الأول من الفترة العثمانية حيث يذكر بأن القدس مدينة تبدو صغيرة، فيها 240 محرابا و7 دور للحديث و10 دور للقرآن و40 مدرسة وتكايا لسبعين طريقة من طرق الصوفية أكبرها طرق عبد القادرالكيلاني (الجيلاني) وأحمد البدوي والرفاعي والمولوي. وفيها 6 خانات و6 حمامات و16 سبيلا... و2045 دكانا وعدة أسواق... وهناك كنيستان للأرمن وثلاث للروم وكنيسان،وهناك بوجه الإجمال ألف قصر من القصور المنيفة التي تشبه القلاع. من الواضح الاهتمام العثماني بالقدس (قدس شريف ــــ كما سميت بالعثمانية)، فقد نجحت إجراءات سليمان القانوني بإعادة إطلاق التجارة والزيارة والحج إلى القدس، وتحولت المدينة مرة أخرى إلى بداية عصر ذهبي، انعكس ذلك على عدد السكان الذي تضاعف أكثر من مرة في القرن السادس عشر. كانت بداية العثمانيين في القدس عظيمة بإنجازاتها، الا أنها ومنذ أواخر القرن السابع عشر (معاهدة كارلوفيتس) قد بدأت بالاضمحلال نتيجة لانشغال الدولة في أوروبا الصاعدة، وتآكل النظام الإداري، وتراجع عوائد الأوقاف، وارتفاع نسب التضخم، وفقدان السيطرة على الانكشارية. وبهذا لم تستطع الدولة العثمانية الحفاظ على مستوى الخدمات المقدمة لسكان القدس وزوارها، كما ازدادت تعديات القبائل البدوية، فانهارت غالبية المدارس والمنشآت العامة، بالرغم من استمرار حركة التصوف وزواياها بالانتعاش. وبالرغم من هذا، فقد استمرت العناية العثمانية بالأماكن المقدسة، فقد شهدت مباني الحرم الشريف عناية واضحة على مدار الفترة العثمانية.
ومن المظاهر التي يمكن الإشارة إليها في القرن السابع عشر، وقد استمرت بالتنامي لاحقا، تدخل القناصل الغربيين في شؤون القدس، خاصة تدخلهم في شؤون الصراعات بين الطوائف المختلفة حول الأماكن المقدسة في المدينة، ولم يبتعد في كثير من الأحيان عن إثارة النعرات لخلق المبررات للتدخل ولإثبات عجز الدولة العثمانية عن إدارة الأماكن المقدسة. واستهل القرن الثامن عشر سنة 1703م بثورة مقدسية قادها نقيب الأشراف محمد بن مصطفى الحسيني استمرت سنتين، تعبيرا عن تدهور الأوضاع العامة، وتراجعا واضحا في هيبة السلطة المركزية، ونموا بارزا لسلطة العائلات المحلية. فقد فرض حاكم القدس جورجي محمد باشا ضرائب باهظة على سكان القدس والفلاحين في المنطقة مستخدما طرقا جائرة في تحصيلها، ومن ضمنها اعتقال أعداد كبيرة في القدس. فاشتعلت الثورة وسيطرت على المدينة وأطلق سراح المساجين، وهرب جوربجي، حيث عين حاكما على دمشق، وأرسل قوة كبيرة من الانكشارية لقمع تمرد القدس سنة 1705، ففر نقيب الأشراف إلى طرطوس حيث اعتقل هناك وأرسل إلى اسطنبول لينفذ فيه حكم الإعدام عام 1707. وكثيرة هي المرات التي اضطر فيها سكان القدس إعلان العصيان في وجه الدولة العثمانية إما احتجاجا على سوء تصرف الولاة والموظفين، او استنكارا لكمية الضرائب المفروضة عليهم. أصبحت القدس خلال القرن الثامن عشر تدار بشكل أساس من عائلات أعيان فلسطين مثل آل طوقان وآل النمر (من العائلات النابلسية)، هذا علاوة على نمو نفوذ العائلات المقدسية مثل الحسيني والخالدي وأبي اللطف، وازدياد اعتماد الدولة العثمانية عليهم في إدارة الأمور العامة.
ولم ينتصف القرن التاسع عشر إلا وإبراهيم باشا، ابن محمد علي الكبير والي مصر، يقف بجنوده أمام أسوار المدينة العام 1831م متحديا بذلك السلطة العثمانية والدول الغربية، ضمن حملة شملت كل بلاد الشام. وبالرغم من قيام إبراهيم باشا بمحاولة إصلاح إداري للنظام السائد، إلا أن القوى المحلية الريفية قد قاومته بشدة بدأ بالعام 1834م، كما فتحت حملته أعين أوروبا على فلسطين بشكل عام، وأدت إلى دمج فلسطين، وعلى رأسها القدس، بشكل متزايد ضمن عجلة الاقتصاد العالمي. وتحت ضغط القوى العظمى، اضطر محمد علي الكبير العام 1840م إلى سحب قواته من بلاد الشام، مكتفيا بسيطرته على مصر. لقد أسهم إبراهيم باشا في إجراء الكثير من الإصلاحات الإدارية في المدينة، وبنى فيها مقرا للحكم سمي القشلاق، مازال ماثلا بالقرب من القلعة. إن انفتاح القدس على العالم خلال فترة حكم إبراهيم باشا قد أثر، سواء من حيث الشكل او من حيث السكان، على القدس بشكل استراتيجي. وهناكمجالا للاعتقاد أن إجراءات إبراهيم باشا قد قادت إلى التدخل الأوروبي المباشر في المدينة، ومهدت هذه التدخلات إلى الهجرات اليهودية الواسعة إلى القدس. على أية حال، فإن القدس قد بدأت بتسريع علاقاتها بالعالم الخارجي بشكل ملفت للنظر، كما يمكن ملاحظة تزايد التعددية الحضارية والإثنية والدينية في المدينة بشكل لم يسبق له مثيل. لقد استطاعت القدس في القرن التاسع عشر أن تنمو بوتيرة لا تتوافق وموقعها، فقد شهد هذا القرن نموا واضحا في المدن الساحلية (يافا وحيفا)، وذلك بالتوافق مع نمو مدن البحر الأبيض المتوسط (الإسكندرية وبيروت مثلا)، ولذلك يمكن اعتبار نمو القدس خارج عن الإطار العام، حيث أنها لا تتمتع بموقع تجاري او استراتيجي، لكن أهميتها الدينية والسياسية أصبحت عامل دفع باتجاه التطور. أصبحت القدس عام 1872 عاصمة فلسطين غير المنازعة، لكن هذا الإجراء الإداري العثماني قد ألغي نظر للاحتفالات الأوروبية بهذا التطور، والذي توافق والتطلعات الأوروبية، فاستشعرت الدولة العثمانية الخطر. لكن ظلت القدس في الأمر الواقع عاصمة فلسطين، وبغض النظر عن أية إجراءات إدارية مغايرة.
الشرق والغرب في القدس
وصلت إلى القدس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعداد كبيرة من الرحالة الأوروبيين، وقد خلدوا رحلاتهم بكتابات نشروها وضمنوها وصفا تفصيلا لأوضاع المدينة، وملاحظات قيمة. وفي الحقيقة من الصعب كتابة تاريخ القدس في هذا القرن دون الاعتماد على أدب الرحلات هذا، بالرغم من أن الكثير منه قد كتب بهدف تسويغ الاستعلاء الحضاري والديني ولاحقا الاستعمار الأوروبي، حيث يحتوي على الكثير من الدعوات الواضحة والمبطنة بعدم استحقاق "همجي الشرق" هذه المدينة العظيمة. على أية حال،تنبهت القوى الأوروبية إلى توافر إمكانية دخول القدس، ليس فقط بسبب ضعف الدولة العثمانية، بل أيضا خوفا من بعضها وتخوفا على مصالحها. فسارعت غالبية الدول إلى فتح ممثليات قنصلية لها في المدينة، ففتحت بريطانيا قنصليتها سنة 1838، وبروسيا سنة 1842، وسردينيا سنة 1843، وفرنسا سنة 1843 أيضا، ثم تلتها النمسا سنة 1847، وإسبانيا سنة 1854، وأمريكيا سنة 1856، وروسيا سنة 1857. ورافق التمثيل القنصلي الإرساليات التبشيرية، خاصة البطريركية اللاتينية التي جددت نشاطاتها في الأراضي المقدسة سنة 1847 بعدما توقفت منذ انتهاء الحروب الصليبية. وكانت قد سبقتها الكنيسة البروتستانتية بتأسيس أسقفية مشتركة بين بريطانيا وبروسيا. ويذكر بأن بطاركة الروم الأرثوذكس قد نقلوا مقرهم من القسطنطينية إلى القدس سنة 1845. كما تم سنة 1848 تدشين كنيسة بروتستانتية (كنيسة المسيح Christ Church ) التي تقع بالقرب من القلعة. وبعد أن نجحت روسيا، بعد حرب القرم، في الحصول على دور خاص لها في الأراضي المقدسة حيث وصل سنة 1858 أسقف وقنصل روسيان وبدءوا بالبناء في كل مكان، تلك الأبنية التي اصطلح على تسميتها بـ"المسكوبيات"، حيث حظيت القدس بمجمع ضخم إلى الشمال الغربي من البلدة القديمة. بمجمل القول، أصبحت مدينة القدس بعد حملة إبراهيم باشا مركزا لدوامة المنافسات الأوروبية في إطار "المسألة الشرقية".
وبهذا دخلت القدس العمارة الأوروبية، بعد انقطاع دام حوالي سبعة قرون، مع نهاية فترة الوجود الصليبي. تمثلت العمائر الغربية بالمدينة بسلسلة من الكنائس والأديرة والمدارس والأنزال والمستشفيات، حيث غيرت طابع المدينة، وملئت الفراغات التي حدثت نتيجة سلسلة من الهزات الأرضية، خاصة ما حدث منها في القرنين السابع عشر والثامن عشر او بهدم مباني صغيرة وإنشاء مباني ضخمة بدلا منها. تركز النشاط العمراني الغربي أولا في داخل البلدة القديمة على امتداد طريق الآلام بدء بكنيسة ومجمع سانت آن، عبر طريق الواد صعودا إلى عقبة المفتي، وانتهاء بكنيسة القيامة. كما نشطت حركة البناء الغربية في المنطقة المحيطة بكنيسة القيامة، خاصة سوق أفتيموس وكنيسة المخلص اللوثرية الألمانية، ونزل الكسندر نيفسكي الروسي. وامتدت هذه الحركة لتشمل غالبية المنطقة الواقعة بين باب الخليل والباب الجديد. بدأ الازدهار العمراني في القدس، داخل وخارج أسوار المدينة، منذ انتهاء حرب القرم سنة 1856، ففي نهاية القرن التاسع عشر تم إحصاء 42 ديرا مسيحيا و28 نزلا و17 مستشفى و54 مدرسة (منها 8 مدارس رشادية). ومن هذه المؤسسات مدرسة شنلر (دار الأيتام السورية) الشهيرة سنة 1860، ومدرسة طليتا قومي سنة 1868، ومدرسة الفرير سنة 1876، ومدرسة الآباء البيض (دير القديسة حنة) سنة 1887.
وفي هذه الفترة، تم استكمال مد شبكة الصرف الصحي داخل أسوار المدينة سنة 1868، كما تم الانتهاء من تبليط غالبية طرق المدينة بين السنوات 1864-1865 وتزويدها بشبكة من أنابيب المياه. ويذكر بأنه قد جرى ترقيم المباني سنة 1858 وكتبت على البنايات بالأرقام العربية وبحجم كبير، كما أنشأت بلدية القدس سنة 1863. هذا، وقد تم نقل المسلخ وصناع الجلد (المدابغ) إلى خارج الأسوار سنة 1880. كما جرى إضاءة شوارع المدينة بعد قرار من المجلس البلدي سنة 1896، وذلك باستعمال اللوكس الذي يشتغل بالكيروسن (كاز). وقد استمرت عملية إضاءة المدينة لعدة سنوات، بحيث أنه مع مطلع القرن العشرين كانت كل شوارع المدينة مضاءة، كما أن شوارعها كانت نظيفة، حيث قامت البلدية ليس فقط بتنظيم حركة إخراج الزبالة إلى خارج المدينة بل أيضا بتنظيف منظم ودوري لشوارعها. كما قامت البلدية (حوالي العام 1880) بتركيب ساعات في الساحات العامة. ونشأت في البلدة القديمة مصلحة البرق والبريد، وذلك سنة 1876 في سويقة علون، وفي حارة الأرمن كان هناك مركزا للبريد النمساوي الذي افتتح سنة 1859، وتحول البريد تدريجيا الى احتكار نمساوي (هبسبورغي). وفي العام 1900 قامت ألمانيا بتدشين بريدها في القدس، بل أخذت الأمر بشكل أكثر جدية من النمسا، حيث قامت بتوزيع صناديق بريد في كل شوارع المدينة، وطبعا على كل صندوق حفر العلم الألماني، فحضور الإمبراطور الألماني وليم الثاني عام 1898 ترك أعلاما ونسورا ألمانية في أنحاء مختلفة من المدينة. ولم تمر بضعة أشهر على اجتياح البريد الألماني شوارع القدس، إلا وقد تنبهت فرنسا لذلك، ففتحت بريدها مقارعة بذلك من سبقها، وذلك بصفتها حامية راية الكاثوليكية في "الأراضي المقدسة" وفي الدولة المريضة. أما روسيا، حامية أرثوذكس القدس وكل الإمبراطورية العثمانية، فلم تتوانى عن القيام بردة فعل سريعة، فافتتحت بريدها في القدس عام 1901. لقد تأخر الرد الايطالي على هذا الاستفزاز، فدخلت ميدان التنافس على البريد في القدس عام 1907.
ويذكر بأن البلدية قد اتخذت قرارا سابقا وذلك سنة 1868 بإنشاء سلسلة من المراحيض العامة، خدمة لزوار المدينة وحجاجها وأسواقها، فانتشرت هذه المراحيض خاصة في الأسواق، وغالبيتها مازالت مستخدمة لهذا الغرض حتى اليوم. كما جرى عام 1885 استبدال البلاط الحجري القديم في طرقات البلدة القديمة بآخر جديد، كما جرى عمل أقنية على طرفي الطرق، لاستيعاب مياه الأمطار، التي قد تهطل بغزارة أثناء موسم الشتاء. والبلاط الأخير ظل قيد الاستعمال لفترة طويلة، منه ما غطي في ستينات القرن الماضي بالإسفلت او بالمدات الخرسانية، ومنها ما اقتلع بعد الاحتلال الإسرائيلي. إن جزءا هاما من حركة البناء والتوسع قد تمت خارج أسوار المدينة، حيث ألغيت عمليا وظيفة الأسوار، وأصبحت البوابات لا تغلق منذ بداية السبعينات من القرن التاسع عشر. كما وأصبحت الحارات الجديدة خارج الأسوار، في الجهتين الغربية والشمالية، تستقطب الحياة العصرية والحركة التجارية. وقد ساعد تعبيد طريق العربات بين يافا والقدس العام 1868 على ظهور طرز معمارية جديدة، وذلك لسهولة نقل مواد البناء، خاصة الحديد (العوارض/الدوامر الحديدية) والألواح الخشبية من ميناء يافا النشط إلى مدينة القدس النامية بوتيرة عالية، وكان قد سبق ذلك عام 1864 ربطا تلغرافيا للقدس بيافا والقسطنطينية والقاهرة. اكتمل مشروع ربط القدس بالعالم عبر إنجاز خط سكة الحديد يافا ــــ القدس سنة 1892، أما الهاتف فقد أدخل إلى القدس سنة 1905، وتبع ذلك دخول السيارات إليها عام 1908، وهبطت أول طائرة في المدينة سنة 1912، هذه الأمور مجتمعة قد أدت إلى نشوء تدريجي لمدينة أوروبية حديثة في أحضان القدس. وبخروج أحياء جديدة إلى خارج البلدة القديمة، نشطت أيضا حركة البناء الغربية فيها، مبتدأه بالمناطق المحيطة بالبلدة القديمة متمددة إلى جبل الزيتون والكولونية الألمانية (سنة 1873) والكولونية اليونانية ومناطق أخرى على قمم الجبال المحيطة بالقدس القديمة.
ونشطت الحركة الصهيونية في المدينة عبر رفع عدد اليهود وتكثيف حركة الاستيطان داخل وخارج أسوار القدس، وكان من الممكن مشاهدة حركة بناء لمؤسسات يهودية مثل مدرسة لامل سنة 1868، ومدرسة ايقلينيا دي روتشيلد للبنات سنة 1864، ومدرسة الاتحاد الإسرائيلي سنة 1881. وبرزت إلى الوجود أحياء يهودية سكنية في الشمال الغربي وعلى جانبي شارع يافا. كما تمثل النشاط بإنشاء مباني ضخمة ممتدة طوليا بشكل موحد وبطريقة بناء أشبه بالعسكرية الحصينة (يمين موشيه مثلا)، هذا الأمر اتضح بشكل كبير في العقد السابع من القرن التاسع عشر.تمثل الطراز المعماري الغربي بالقدس بالضخامة المميزة، والارتفاع الزائد عن معدل ارتفاعات المباني التقليدية القديمة فيها، مستخدما تقنيات ومواد البناء الغربية الحديثة. كما تميزت بالتخطيط المسبق على أيدي مهندسين غربيين مجربين، لكنهم لم ينسوا في غالبية الحالات دمج عناصر زخرفية وهندسية شرقية محلية مستوحاة من المخزون المعماري الغني الذي تختزنه القدس، منتجين بذلك خلطا حضاريا، بالرغم من ميله إلى الطراز الغربي الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وفي بعض هذه المباني استنباط واضح من الطراز الصليبي سواء الرومانيسك منه او القوطي، ولكن بتشكيل حديث، باحثين بذلك عن جذور حضارية لإثبات "شرعية الوجود" (كنيسة المخلص اللوثرية مثلا)، وقد يكون مرد ذلك محاكاة وتذكير ببعد ديني وسياسي لهذه الفترة، على اعتبارها امتداد لتلك (مجمع الأغوستا فكتوريا).