وبسقوط الأيوبيين، بزغ فجر نظام سياسي جديد، عصر المماليك، قدر له أن يسيطر على بيت المقدس أكثر من قرنين ونصف. لقد شكل المماليك (حوالي 1250-1516م) ظاهرة فريدة في التاريخ البشري ككل، حيث أنه أرقاء بالأصل.إن أحد المظاهر الحضارية والمعمارية الرئيسة للقدس اليوم مازال مملوكيا، وقد تشكلت المباني المملوكية من مدارس وخانات وأسواق وزوايا وأسبله وأربطة وكتاتيب جواهر القدس المعمارية. وتم الحفاظ على هذه المباني الرائعة بشكل يفوق نسبيا أية مدينة مملوكية أخرى. وبالرغم من اتحاد القدس معماريا بباقي المدن الشامية والمصرية خلال هذه الفترة، الا أننا نلحظ خصوصيات معمارية مقدسية، تتوافق والتراث المحلي دون أن تتخلى عن طرازها المملوكي العام.بالمماليك وأوقافهم ومؤسساتهم، قفزت القدس قفزة حضارية من الطراز الأول، فإن كنا نعتبر بأن العصور الزاهية بتاريخ المدينة قد بدأت بهيرودوس الذي شكل المرحلة الأولى منها، فقد شكل الأمويون المرحلة الثانية، في حين شكل المماليك مرحلتها الثالثة. لم يبقى أي بناء هيرودي كامل في القدس، وبقيت بعض المباني الأموية داخل الحرم الشريف مثل قبة الصخرة، وأجزاء من المسجد الأقصى، وقبة السلسلة، والتسوية الشرقية/المصلى المرواني، وبعض بوابات الحرم الشريف، في حين مازالت عشرات المباني المملوكية تزين المدينة في مختلف أنحاءها، وخاصة في الحرم الشريف والمنطقة المحيطة به.
ومن مظاهر النهضة الحضارية للقدس المملوكية هذا الكم الهائل من دور العلم التي انتشرت في البلدة القديمة، حيث وصلت إلى 27 مدرسة غير الزوايا والأربطةوالخانقاوات والمسجد الأقصى وساحاته، التي استخدمت أيضا للأغراض العلمية من بحث وتأليف وتدريس. لقد حولت هذه المؤسسات التعليمية القدس إلى مركز علمي لم تشهده من قبل، حين أقبل كبار علماء العصر المملوكي على الدراسة والتدريس في مدارسها، التي أنشأت على أيدي السلاطين والأمراء والمحسنين مثل السلطان قايتباي (المدرسة الأشرفية سنة 1480م) وكذلك الأمير تنكز الناصري (المدرسة التنكزية سنة 1328م) والدوادار (المدرسة الدوادارية سنة 1295م) وآخرون... ومن المثير القول بأن النساء قد ساهمن في هذه المرحلة بعملية إعمار القدس، فقد قامت الست سفرة خاتون ببناء المدرسة البارودية سنة 1367م، والسيدة أغل خاتون البغدادية ببناء المدرسة الخاتونية سنة 1380م، والسيدة أصفهان شاه خاتون ببناء المدرسة العثمانية سنة 1473م، هذا عدا عن أضرحة النساء وقصورهم. وغني عن القول بأن المباني المملوكية قد انتشرت في مختلف أنحاء المدينة، الا أنها قد أحاطت بالحرم القدسي الشريف من جهتي الشمال والغرب، وامتدت على المحاور الأساسية التي تقود إليه، مثل طريق باب السلسلة، وطريق باب الحديد، وسوق القطانين، وطريق المجاهدين ...الخ.
كما نمت حركة الزيارة إلى بيت المقدس خلال هذه الفترة وقاربت أن تصل في عدد زوارها حجاج مكة والمدينة، مما استدعى إقامة الأربطة والأنزال (جمع نزل) ومنها الرباط المنصوري، الذي بناه السلطان قلاوون سنة 1282م، وألفت المزيد من كتب الفضائل التي تبين المميزات الدينية والتاريخية للقدس، لتصل الى أكثر من ثلاثين مؤلفا. ولتنامي البعد الديني للقدس، أصبحت المدينة قبلة لرجال التصوف، وقد شجع السلاطين المماليك هذه الظاهرة ببناء أعداد كبيرة من دور الصوفية من زوايا وأربطة وخوانق (جمع خانقاه) خدمة لهذا الغرض، نذكر منها على سبيل المثال، الزاوية البسطامية العام 1369م، والزاوية الوفائية العام 1380م، والزاوية النقشبندية (القرن الخامس عشر)...الخ .ومما زاد ارتباط المماليك بالقدس، استخدام المدينة مركزا لظاهرة البطالين، وهم المنفيينالمنزوعي الرتب وحق التدخل في الشؤون العامة، لكثير من الأمراء الذين كان يخشى السلطان من سطوتهم وثورتهم، وتحول بعض المنفيين إلى القدس فيما بعد إلى سلاطين او أمراء هامين، أغدقوا على المدينة الأعطيات وساهموا في بناء المؤسسات العامة والخيرية.
ومما لا شك فيه، أن القدس المملوكية قد طورت مواردها الاقتصادية بشكل كبير، فقد عكس التطور في بناء الأنزال والرباطات، سواء الإسلامية او المسيحية، حركة حج وزيارة واسعة النطاق، ارتبطت بها زيادة في الإنتاج الحرفي، خاصة المرتبط بالهدايا التذكارية، كما دفع الزوار رسوم زيارة. وشكل سوق القطانين، الذي ركز فيه إنتاج المنسوجات القطنية والحريرية مدخلا اقتصاديا حيويا للتجارة الدولية في المدينة، خاصة تلك التي طورت مع مصر وبلاد الشام. وهناك إشارات تاريخية هامة حول صناعة الصابون في القدس التي ازدهرت خلال الفترة المملوكية. لكن العوائد الكبيرة قد جاءت من الأوقاف الغنية التي حبسها سلاطين وأمراء المماليك على مقدسات ومؤسسات المدينة، كذلك الحال بالنسبة للأغنياء والعلماء، موفرين بذلك فرص عمل وافرة. وفي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، كانت مملكة المماليك تعاني من أزمة مالية خانقة بسبب اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وبالتالي فقدان المماليك لاحتكاراتهم التجاري، خاصة احتكار تجارة التوابل والبخور، التي كانت تدر عليهم الأموال الوفيرة من جهة، وبسبب نمو إمبراطورية عالمية عظيمة (الإمبراطورية العثمانية) على الحدود الشمالية، انهارت هذه المملكة الفريدة في معركة مرج دابق أمام الجيش العثماني الفتي، وذلك سنة 1516م، فاتحة بذلك عهدا جديدا قدر له أن يسيطر على القدس مدة أربعة قرون، ومدشنة لعلاقة حميمية بين القدس وسلاطين بني عثمان بزيارة السلطان سليم الأول بعد فتحها بيومين (28 كانون الأول 1516م).