انتهى الحصار العربي الإسلامي للقدس بتسليم مفاتيح المدينة إلى الخليفة عمر بن الخطاب الذي ضمن بوثيقة وقعها الاستمرارية الحضارية والتسامح الديني والاجتماعي لسكان القدس المسيحيين، تلك الوثيقة المعروفة بـ"العهدة العمرية"، والتي ما زالت إلى حد بعيد تنظم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في المدينة. وتروى قصة زيارة عمر بن الخطاب للمدينة في غالبية المصادر الإسلامية والمسيحية، ومن ضمنها ما ينسب إلى امتناع عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة عند زيارته، بالرغم من رفع الآذان، مفضلا الصلاة في ساحة الكنيسة، حتى لا يسيطر المسلمون على الكنيسة لاحقا بحجة صلاة عمر فيها.ارتبطت القدس بالإسلام قبل الفتوحات كونها أولى القبلتين، ومسرى الرسول محمد ومعراجه إلى السماوات.وازداد هذا الارتباط بمرور الوقت عبر تنامي العلاقات والنشاطات الإسلامية بالمدينة، كما ارتبطت المدينة بعدد من الشخصيات التاريخية الإسلامية الهامة التي أضفت بعدا إضافيا على هذه العلاقة. وترافق الوجود الإسلامي بحركة بناء عظيمة، عبر مشروع متكامل شمل كل منطقة الحرم الشريف، وتتوج ببناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى المبارك والمنطقة المحيطة، ببواباتها وجسورها وتسوياتها وقصورهالتشكل هذه العمائر جوهرة القدس. هذا بالإضافة إلى القيام بعملية تحصين للمدينة، وذلك عبر استكمال بناء السور وترميم أجزاء من القلعة.

 

لقد أصبحت القدس الأموية (660 ــــ 750م) بقبة الصخرة والمسجد الأقصى مدرسة معمارية وفنية وأشهر عمائر العالم الإسلامي، كما اكتسبت القدس بالإسلام بعدا عالميا جديدا، بعد أن كانت مقتصرة على العالمية المسيحية. بالإضافة إلى ذلك، فقد لعبت دورا هاما لقدسيتها ولقربها من مركز الخلافة، هذا الدور تعدى مكانتها الدينية المرموقة إلى دور سياسي إداري مركزي، يشهد عليه حجم القصور (دار الإمارة) الأموية الواقعة إلى الجنوب الغربي من محراب المسجد الأقصى.وهناك شواهد كافية على انتعاش القدس اجتماعيا واقتصاديا في الفترة الأموية، فقد عاشت استقرارا لم تعشه منذ فترة طويلة، وقد زاد الانتعاش استمرار زيارة المدينة من  قبل خلفاء وأمراء البيت الأموي وقضائهم أوقاتا طويلة فيها مدبرين بذلك أمور الدولة الأموية من القدس، مما أثر على نموها ومركزيتها. كما واستقرت فيها مجموعات عربية إضافية، وأصبح حرمها عنوان زيارة للمسلمين من العالم الإسلامي. ويبدو بأن الحج المسيحي والإسلامي قد ازداد بشكل ملحوظ خلال هذه الفترة، وزاد المدينة غناء السوق الموسمي الذي كان يعقد في 12 أيلول من كل عام.

 

وبالثورة العباسية (750م) على الخلافة الأموية، تم نقل مركز الخلافة من دمشق، عاصمة بلاد الشام وعاصمة بني أمية، إلى بغداد، لينتقل معها أيضا ثقل التأثير والفعل الحضاري، وبالرغم من العناية الفائقة التي أولاها بنو العباس بالأماكن المقدسة، إلا أنهم لم يستطيعوا إضافة أي شيء جدير بالذكر في القدس. وقد يكون السبب ليس قلة الاهتمام، بل لأن الحاجة إلى المباني العامة خاصة الدينية قد أنجزها بنو أمية، خاصة في منطقة الحرم الشريف، ولم يبقى على بني العباس سوى صيانة هذه المباني، وبالتحديد أيام المنصور (754-775م) والمهدي (775-785م) والمأمون (813-833م)، حين تعرضت المدينة لعدة تدميرات بسبب الهزات الأرضية التي ضربتها أثناء خلافتهم. وبالتأكيد لم يكن للخلافة العباسية مصلحة في ترميم الرموز السياسية لبني أمية (دار الإمارة) التي تعرضت لزلزال مدمر قبل استيلاء الجيش العباسي على القدس. ويذكر بأن عددا من الخلفاء العباسيين قد زاروا المدينة، فقد زارها الخليفة المنصور بعد قيامه بمناسك الحج (سنة 758م) وعاد إليها مرة ثانية سنة 771م، كما حضر إلى القدس خصيصا ابنه المهدي، كما زار القدس العديد من الخلفاء العباسيين خلال فترة حكمهم الطويلة.وإن كان العصر العباسي يقسم إلى فترتين، الأولى ذهبية استمرت ما يقارب القرن، حكم خلالها الخلفاء الأقوياء وكانت السلطة فيها أقرب ما تكون عربية، والثانية هي فترة تسلط السلاطين من بني بويه والسلاجقة الأتراك وسادت فيها حركات الاستقلال الإقليمية، إلا أن الاهتمام بالقدس لم يتأثر بذلك، لكنه لم يصلنا أي شيء يذكر من هذه الفترة نستطيع من خلاله استقراء مميزاتها، سوى الترميمات وأعمال الصيانة الدورية التي طالت كل مكونات الحرم الشريف، حيث تم ترميم كل مبنى عدة مرات.

 

استقلت مصر وبلاد الشام نسبيا عن الخلافة العباسية بقيادة أحمد بن طولون مؤسسا بذلك الدولة الطولونية التي حكمت بيت المقدس (878-905م)، والتي قضت جل وقتها في الأعمال العسكرية التي تتوافق وطبيعتها، ولم تترك أي أثر في المدينة، سوى بعض التحصينات التي تلاشت بسبب الدمار الصليبي.ثم حكمت القدس الدولة الإخشيدية (939-969م) بعد فترة قصيرة من الحكم العباسي المباشر (يسمى عهد الولاة 905-939م). ارتبط الإخشيديون بعلاقة وثيقة بالقدس، وكانوا حيثما ماتوا يحملون إلى القدس ليواروا التراب في ثراها. وأثناء ولايتهم على المدينة، تعرضت القدس، كما هو الحال بالنسبة لباقي فلسطين، لحملات القرامطة، مما دفع السلاطين السلاجقة إلى التدخل المباشر في شؤون حكم القدس، لكن الأمر لم يدم لهم طويلا، حيث وقف تحت أسوارها جيشا فتيا قادما من المغرب العربي مسيطرا على مصر ثم فلسطين، حاملا مذهبا مغايرا لأهل السنة والجماعة، ألا وهو الجيش الفاطمي الإسماعيلي.

استولى الفاطميون الشيعة على القدس عام 969م، قالبين بذلك الانتماء السني للمدينة على مدار قرنين، وقدموا أنفسهم كمبدعين، بغض النظر عن مذهبهم، فأسسوا فيها مستشفى، وصفه ناصر خسرو (سنة 1047م) بالعظيم كان يدرس الطب، ومن المعتقد بأن موقعه كان إلى الجنوب من المسجد الأقصى، ودارا للعلم على الأغلب كانت تقع إلى الشمال من الحرم الشريف في منطقة المدرسة الصلاحية، كما اعتنوا بالأماكن الإسلامية المقدسة بشكل مميز، حيث تركوا بصماتهم في المسجد الأقصى. إن وصف ناصر خسرو للقدس خلال هذه الفترة يصور مدينة حيوية نشطة كبيرة، فيها من الأسواق والتجارات ما يبهر الأبصار، وتوافرت في أسواقها البضاعة بأسعار رخيصة. لم يستطع ناصر خسرو، وهو الرحالة المجرب، إخفاء إعجابه بالقدس ومقدساتها.

 

ويحدثنا الرحالة وليم الصوري عن مستشفى آخر بناه تجار مدينة أمالفي الإيطالية في منطقة الموريستان (الدباغة حاليا)، كجزء من مجمع ديني ونزل، بعد أن أهداهم الخليفة المستنصر بالله قطعة الأرض الضرورية لذلك.عاش مسيحيو القدس أزمة عظيمة خلال حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996-1020م) حين قام بهدم كنيسة القيامة واضطهد المسيحيين سنة 1009م، ومن الجدير بالذكر بأن تعامله مع رعاياه من المسلمين لم يكن بأفضل حال. لكن، وبانتهاء فترة حكمه رفعت المظالم وأعيد بناء ما تهدم، وتتحدث غالبية الروايات عن بدء حركة إعادة بناء كنيسة القيامة قبل وفاة الحاكم واستمرت خلال خلافة ابنه الظاهر، وقد يكون ابن الجراح الطائي الذي نصب نفسه حاكما على أجزاء واسعة من فلسطين قد أسهم هو أيضا من أمواله الخاصة بتكاليف إعادة بناء كنيسة القيامة. كما أمر الظاهر بإعادة بناء وترميم أسوار المدينة، إلا أن هذا المشروع لم يكتمل بسبب الهزة الأرضية التي ضربت القدس العام 1033م. وعلى ما يبدو استأنف الفاطميون مشروع ترميم الأسوار.استطاع السلاجقة السُنّة العام 1070م استرداد المدينة من الفاطميين، إلا أن الحرص الفاطمي على الحفاظ على المدينة رمزا دينيا يساهم في حل إشكالية الشرعية لديهم، دفعهم من جديد إلى غزوها العام 1096م، لكنهم لم يستطيعوا الحفاظ عليها لأكثر من ثلاثة أعوام، حيث خسروها لصالح قوة جديدة غيرت تاريخ المشرق العربي لمدة قرنين من الزمان.في ظل هذه الظروف غير المستقرة التي سيطرت على القدس، وبالرغم من وجود روايات حول حيوية المدينة، خاصة في دور العلم كما يرويها لنا أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي، وإقامة الإمام أبو حامد الغزالي في القدس، وزيارتها بهدف التعلم والتعليم مجموعة من كبار العلماء المسلمين، إلا أننا لا يمكن أن نسجل انجازات حضارية واضحة المعالم، فقد تقاذفت الأيدي المدينة من عباسيين إلى فاطميين إلى قرامطة إلى سلاجقة إلى فاطميين مرة أخرى، وذلك كله خلال بضعة عقود، مما مهد لسقوط فلسطين والقدس بيد الفرنجة.