في سهل فسيح في جنوب فرنسا، يسمى "كليرمون"، وقف البابا أوربان الثاني العام 1095م محرضا مسيحي أوروبا على تحرير قبر السيد المسيح من أيدي العرب المسلمين. وبفعل هذه الدعوة، ولأسباب أخرى كثيرة، توجهت الجيوش الأوروبية حاملة شعار الصليب على ملابسها، بمرافقة الآف الرعاع وفقراء أوروبا وأمراءها الباحثين عن ثروات الشرق وإقطاعيات جديدة، ضمن حملة سميت بـ "الحج المسلح" إلى بيت المقدس، والتي عرفت لاحقا بـ "حملات الفرنجة" (في المصادر العربية) او "الحملات الصليبيين" (في المصادر الغربية). وصلت هذه القوات أسوار القدس عام 1099م، بعد أن استطاعت في طريقها تأسيس إمارتين إفرنجيتين في الرها وطرابلس الشام.لقد كان حصار القدس شديدا، واستعصت المدينة مدة أربعين يوما على غزاتها، الذين حاولوا تجويع السكان، وممارسة كافة أشكال الضغط عليهم، وبعد إنهاك المقاومة، انهارت أسوار القدس أمام معاول ودبابات وأبراج المهاجمين، لترتكب داخل المدينة مذبحة رهيبة اقشعرت لها أبدان القتلة أنفسهم، وراح ضحيتها، حسب التقديرات الفرنجية، عشرات الألوف من المسلمين، وبضع مئات من اليهود.

 

ولم تكن المذبحة الحضارية أقل بشاعة من مذبحة سكان المدينة، فقد طالت معاول الفرنجة، بالإضافة إلى استباحة المدينة ونهبها، تقريبا كل بناء إسلامي يقع خارج الحرم الشريف، عدا عن الكثير من الكنائس الشرقية. لقد سلم الحرم بمبانيه الأساسية، حيث حولت الصخرة المشرفة التي أبهرت غزاتها، إلى كنيسة سميت معبد الرب (Templum Domini) او معبد (هيكل) إبراهيم، في حين حول مبنى المسجد الأقصى إلى كنيسة ومركز إداري ومقرا للملك اللاتيني ودارا لفرسان الداوية المسمون أيضا بفرسان الهيكل (الهيكليين)، ومخازن للأسلحة، كما تم تحويل التسوية الشرقية للمسجد الأقصى، المسماة حاليا المصلى المرواني، إلى إسطبلات لخيولهم سموه بـ"إسطبلات سليمان". وأما مجمع تجار أمالفي، الواقع في حي الدباغة/الموريستان، فقد حول إلى مقر لفرسان الاسبتارية. ولاحقا بني قصر جديد للملك في قلعة القدس. وبهذا أصبحت القدس عاصمة لمملكة بيت المقدس اللاتينية، منفصلة بذلك عن تاريخ طويل ارتبطت عبره بإمبراطوريات عالمية.  

 

كان التغيير في شكل القدس دراميا خلال فترة الفرنجة، فقد قاموا ببناء عدد كبير من الكنائس ومبان عامة وأسواق داخل أسوار المدينة، وذلك على أنقاض المباني الرومانية والبيزنطية والأموية والعباسية والفاطمية، وأدخلوا عليها طراز الرومانيسك الغربي، ولاحقا أدخلوا أيضا الطراز القوطي المبكر. وغيرت أسماء أبواب وشوارع المدينة. كما وقاموا بعملية إحلال سكاني شبه شاملة، حيث استوطن الفرنجة داخل المدينة، واستدعوا لاحقا مسيحيين شرقيين من فلسطين والأردن وسوريا للسكن في المدينة، وذلك للتغلب على النقص الكبير في عدد سكانها من الفرنجة، حيث تحولت المدينة بهم إلى قرية.تركز استيطان الفرنجة داخل أسوار المدينة في المنطقة المحيطة بكنيسة القيامة والتي سميت بحارة البطريرك، وكذلك في منطقة الحرم الشريف، وتم إنزال المسيحيين الشرقيين، خاصة من شرق الأردن، ومن ضمنهم أيضا من تبقى او عاد من سكان القدس المسيحيين، في منطقة حارة السعدية، التي عرفت في حينه بحارة المشارقة، في حين خلت تقريبا باقي أحياء المدينة من السكان، كما زاد عدد الأرمن الذين نزلوا في الحي المعروف باسمهم حتى اليوم، ولاحقا نشأت أحياء صغيرة للمجموعات العرقية الأوروبية التي سكنت القدس مثل حي الألمان والأسبانوالهنغاروالبلغار واليونان والجورجيونوالبريتانيون...الخ، وقد يكون الحي بهذا المعنى لا يتعدى كنيسة ونزل وبعض المباني المحيطة بها.

 

وصل عدد سكان القدس في نهاية فترة الفرنجة إلى حوالي عشرة آلاف نسمة، وذلك بعد أن زاد أيضا عدد سكان حي الأرمن بشكل مضطرد. وشمل النشاط الإفرنجيبناء الكنائس والأديرة، بالإضافة إلى عدد كبير من الفنادق (أنزال/خانات) لاستيعاب القادمين الجدد ضمن موجات لم تتوقف إلا بعد قرنين من الزمن، بالإضافة إلى حركة الحج التي ازدادت وتيرتها، كما شملت إعادة بناء أجزاء كبيرة من كنيسة القيامة، وبناء كنيسة القديسة حنة (سانت آن/ الصلاحية)، وبناء عشرات الكنائس داخل أسوار المدينة وخارجها. وفي الحقيقة، اهتم الفرنجة كثيرا بأسواق المدينة، حيث قاموا بإعادة بناء عدد منها، وأضافوا عليها البعض الآخر، وذلك لتنشيط الحركة الاقتصادية، علاوة على تلبية الحاجات المتنامية للحجاج المسيحيين. ويمكننا اعتبار حجم البلدة القديمة، مع بعض التعديلات العثمانية الطفيفة، قد استقر خلال هذه الفترة.

 

أثار سقوط بيت المقدس حسرة ومرارة كبيرين في أنحاء العالم الإسلامي، حيث راح المقادسة، ومن ضمنهم لاجئي كل فلسطين، الذين هربوا من شدة الغزو والقتل، بالتجوالفيمختلف البلدان الإسلامية محرضين على استرداد بيت المقدس، فقامت لذلك حركة جهادية بلورها آل الزنكي (عماد الدين ونور الدين)، أنتجت في نهاية المطاف صلاح الدين الأيوبي، الذي وقف عند أسوار القدس العام 1187م بعد أن هزم قوات الفرنجة في معركة حاسمة في حطين.استسلمت القدس لصلاح الدين الأيوبي بعد 88 سنة من السيطرة الصليبية المتواصلة، سامحا لسكانها الفرنجة مغادرتها وحمل أموالهم معهم بعد دفع فدية، في حين أبقى على المسيحيين الشرقيين. وكان لهذا الحدث صدى واسعا في كافة أنحاء العالم الإسلامي، وفي بغداد بشكل خاص حيث الخليفة العباسي. وقد جرى الاحتفال بهذه المناسبة باحتفالات شعبية ورسمية في كل الحواضر الإسلامية.