وفي عام 1917 سقطت القدس تحت الاحتلال البريطاني المباشر، بعد أن سيطر الغرب على المدينة بشكل غير مباشر لمدة حوالي نصف قرن. لاقى هذا الاحتلال تشريعا دوليا بعد ثلاث سنوات عبر نظام الانتداب الذي دام حتى عام 1948. ساهمت هذه الفترة بتشكيل القدس بطرق مختلفة، خاصة في الحفاظ على عمقها الحضاري، على اعتبار أن بريطانيا امتلكت في حينه إرثا طويلا من البحث في تاريخ وآثار وجغرافية فلسطين. وكان من أهم ما قاموا به هو إصدارتشريعات حماية الآثار، والحفاظ على الشريط المحيط بالبلدة القديمة بعيدا بقدر الإمكان عن عمليات البناء، وحماية البلدة القديمة من الدمار، وتشريع قانون استخدام الحجر فقط في البناء ضمن حدود بلدية القدس، وذلك ضمن مخططات هيكلية قاموا بصياغتها لحماية آثار القدس. وفي الحقيقة، فالقدس مدينة للانتداب البريطاني في حماية جزءا هاما من تراثها المعماري والأثري، صحيح جدا بأن الربط بين سكان القدس وتراثهم الثقافي لم يكن يخطر على بال إدارة الانتداب البريطاني، فقد اقتصر همهم الحفاظ على المشهد الثقافي المقدس، والذي تخيلوا عبره الفترة التوراتية.بالإضافة إلى هذا، نشطت عمليات البناء خارج الأسوار في الأحياء الجديدة، وانتقل المركز التجاري من البلدة القديمة إلى الأحياء الجديدة، خاصة الى شارع يافا. كما تصاعدت عملية البناء داخل البلدة القديمة، خاصة للمؤسسات الغربية، مستمرين فيما بدء به قبل الانتداب من عمارة بطرز غربية.

 

كما شهدت هذه الحقبة توسيعا كبيرا للأحياء المختلفة خارج الأسوار، وأصبحت هذه الأحياء تضم الطبقات العليا والمتوسطة من المجتمع المقدسي، مما أدى تدريجيا إلى تراكم الطبقات الأقل حظا من المجتمع داخل أسوار البلدة القديمة، بالإضافة إلى تمركز الأسواق الحديثة المليئة بالبضائع العصرية خارج الأسوار أيضا. أثر هذا التطور، بأبعاده المختلفة، على شكل واستعمالات البلدة القديمة. ولا يمكن النظر إلى هذا التطور بعين ايجابية فقط، فقد تحول اهتمام نخب المدينة القادرة على الاستثمار إلى خارج الأسوار، كما أن جل نشاط البلدية، على اعتبارها ممثلة للطبقات الميسورة من المجتمع، إلى خارج الأسوار. هذا الأمر أدى إلى تراجع الخدمات والأوضاع العامة في البلدة القديمة، وأصبح التطور المذهل الذي شهدته القدس الجديدة على حساب القدس القديمة، او لنقل أن التطور خارج الأسوار لم يرافقه تطور داخل الأسوار بنفس الدرجة والوتيرة.

 

وفي المقابل، سعى الاحتلال البريطاني بكل قواه إلى تمكين الوجود اليهودي في المدينة وذلك عبر ممثلي الحركات الصهيونية، سواء عبر تسهيل الاستيطان وانشاء الأحياء (اليهودية الخالصة) ونقل الأراضي او عبر ادخالهم إلى كافة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وفرض اللغة العبرية كلغة رسمية إلى جانب العربية والانجليزية. وفي الحقيقة تعددت أشكال الدعم البريطاني للوجود اليهودي في المدينة، وذلك على حساب سكان القدس من الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين.