المواسم والمسيرات الدينية

المواسم والمسيرات الدينية

 

في مدينة يمتزج فيها التراث بالدين بشكل وثيق، احتفل الناس بمناسبات كثيرة سواء بشكل مشترك او بشكل فرق، وقد ارتبطت المناسبات والمواسم بالتراث الديني، وتعددت بسبب تعدد الطوائف الدينية، وأخذت أشكال احتفالات شعبية او شكل احتفالات دينية او الجمع بينهما. وفي الحقيقة لا يمر أسبوع على القدس بدون وجود مثل هذه الاحتفلات والمسيرات، ويكفي القول بأن مسيرات طريق الآلام التي تمثل لآلام السيد المسيح لا تتوقف في البلدة القديمة. وسيتم أدناه عرض أهم هذه المناسبات والمواسم:

 

موسم النبي موسى

 

موسم تراثي، يعتبر أهمها وأكبرها بالنسبة لمسلمي القدس. بدأ الموسم زمن صلاح الدين الأيوبي عقب تحرير القدس من الاحتلال الصليبي عام 1187، واستمر تقريبا بلا انقطاع حتى اليوم.موعد الموسم في يوم جمعة من شهر أبريل من كل عام، وهي الجمعة التي تسبق الجمعة العظيمة في الأجندة المسيحية. يقع مقام النبي موسى على بعد حوالي 18 كم إلى الشرق من القدس على طريق أريحا، ولا يبعد المقام سوى مئتي متر عن الشارع العام، وذلك في منطقة صحراوية مشرفة على البحر الميت. بني المقام في البداية من قبل صلاح الجين الأيوبي، ولكن الظاهر بيبرس وسعه بشكل هائل، بحيث أصبح يضم حوالي 50 غرفة ومسجد (المقام) وساحات للاحتفالات وقاعات خدمات ومطابخ، لقد تشكل البناء على شكل خان ضخم مكون من طابقين أخذ شكل القلعة المهيبةتتوسطه ساحة واسعة، ويمكن لقبابه الحجرية الكثيرة أن تشاهد من مسافات طويلة، والتفت حول المقام، خاصة من الجهة الشمالية مقبرة اسلامية واسعة دفن فيها على مر القرون من أوصى بذلك علاوة على البدو المنتشرين في منطقة المقام.

 

كان الموسم يبدأ بمسيرات (تسمى سيارة) سيرا على الأقدام من كل من الخليل ونابلس والأرياف باتجاه القدس وذلك عبر حلقات الدبكة والرقص على أنغام الطبل والمزمار والميجنا والعتابا رافعين البيارق. وعند وصول الخلايلة إلى باب الخليل والنوابلسة إلى باب العمود في نفس اليوم، وتكون وجاهات القدس وشبابها بانتظارهم، وتتجه الجموع بعدها إلى ساحات الحرم الشريف.بعد صلاة يوم الجمعة، يبدأ المسيرمن ساحات الأقصى باحتفال شعبي وديني تتصدره رجالات المدينة وأهم موظفيها وأعيانها علاوة على رجال الدين، حيث تعزف الفرق الموسيقية (الكشافة مثلا) أجمل أنغامها، وتقدم المسير خارج الحرم الشريف الخيول التي تحمل البيارق، وهي محددة بدقة، حيث يحمل شابين من عائلة القطب بيرقين، ومثلهما لعائلة الداودي (سدنة مقام النبي داود)، ومثلهما لعائلة الحسيني (سدنة مقام النبي موسى)، وبيرق عائلة قليبو. اما البيرق الأهم فهو بيرق مفتى القدس (بيرق النبي موسى)، حيث يعتبر خروجه من دار البيرق (عقبة المفتي) ايذانا ببدء الاحتفالات.

 

تتوجه الجموع من باب الأسباط إلى طريق أريحا عبر رأس العامود، حيث تبدأ مباريات الدبكة والرقص والغناء والألعاب البهلوانية على طوال الطريق وعرضها، ولا تتوقف فرق العزف بالطبول والأدوات النحاسية عن العزف.وعند الوصول إلى المقام بعد مسير متعب وطويل، تبدأ المهرجانات وتنفيذ النذور من حلق للأطفال والطهور وذبح الذبائح وتوزيع الهدايا وتقديم الطعام، في ظل أنواع متعددة من الاستعراضات والرياضات والصلوات والمدائح والابتهالات. وتستمر الجموع بالتدفق على الموقع من كل أنحاء فلسطين، حتى يفيض المقام وتقام الخيام من حوله، حتى يتحول الجبل المحيط إلى مخيم ضخم.وللنبي موسى طقوس كثيرة وأناشيد وأغاني خاصة، كما أن له حلاوة تسمى "حلاوة النبي موسى". يستمر الموسم حوالي أسبوعين، ولا يخلو من الخطابات الدينية والسياسية والأدبية.

 

مسيرة أحد الشعانين

 

يقع أحد الشعانين في يوم الأحد الذي يسبق عيد الفصح، وهو الأحد السابع من الصوم الكبير، وهو بداية أسبوع الآلام. يحتفل به في ذكرى دخول السيد المسيح إلى القدس، حيث خرج لاستقباله المؤمنين حاملين سعف النخيل والزيتون الطرية التي أطلقتها الأشجار حديثا ايذانا ببدء فصل الربيع، وكانوا يلقونها تحت أقدامه أثناء تقدمه باتجاه المدينة. وبالرغم من أن الاحتفال المركزي يتم في القدس، الا أنه يحتفل به أيضا في الكثير من المدن الفلسطينية مثل بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله والناصرة، كذلك في المهاجر.يبدأ الاحتفال بالصباح الباكر بالصولات والابتهالات داخل كنيسة القيامة بمشاركة بطريرك القدس اللاتيني، والذي يقوم بمباركة الشعانين، وهي سعف النخيل، والتي تكون قد جهزت داخل القبر المقدس وحوله، ومنها ما شغل بأشكال فنية جميلة.

 

تتجه الجموع بشكل غير منظم إلى جبل الزيتون، وبالتحديد إلى بيت فاجي الواقعة على السفح الجنوبي الشرقي للجبل، وذلك حتى تنتظم هناك، وهي الطريق التي سلكها السيد المسيح قادما من العيزرية، وتمر بقبة الصعود (صعود السيد المسيح الى السموات) ثم تنحدر مرورا بالجسمانية وكنيسة ستنا مريم. يضم الجمع ممثلين من مختلف أنحاء العالم الكاثوليكي، كما تضم مسيحيي فلسطين ممن يستطيعون الوصول إلى القدس المعزولة عن باقي الضفة الغربية. تتقدم فرق الكشافة الممثلة لمختلف المدن الفلسطينية والمدراس مقدمة معزوفاتها، وتشارك فرق إسلامية أيضا هذه البهجة، ثم يمر مئات من رجال الدين وطلاب المدراس الدينية وممثلي المدن المختلفة والسياح وبينهم يسير بطريرك اللاتين بثوبه المميز، وكان في الماضي يمضي حمارا، تماما كما كان يفعل السيد المسيح. تسير الالاف باتجاه أسوار المدينة لتقف أمام كنيسة القديسة آن (St. Ann)، حيث يلقي البطريرك للاتيني كلمة في الجموع، أما الباقي بمن فيهم الفرق الكشفية والموسيقية فتتجه خارج أسوار المدينة باتجاه باب الجديد، حيث ينتهي المسير باحتفال يستمر عدة ساعات.يشكل أحد الشعانين مناسبة دينية واجتماعية على درجة عالية من الأهمية، لذلك يصطف الآلاف من سكان المدينة من المسلمين والمسيحيين والزوار على طرفي الطريق لاستقبال المسير، والذي يرمز أيضا إلى الخلاص والفداء.

 

عيد سبت النور

 

من أهم الأعياد الدينية والشعبية للطوائف المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، يرمز الاحتفال إلى السلام والأبدية والقيامة، ويتم في عيد الفصح يوم السبت الذي يسبق القيامة. وتقول الرواية الدينية أنه بعد دفن السيد المسيح تم اغلاق القبر بصخرة كبيرة، لكن هذه الصخرة تدحرجت لاحقا وخرج منها نور مقدس معلنا بذلك قيامة المسيح.يحتفل بهذا العيد في المدينة منذ القرن الرابع الميلادي، ولهذا العيد طقوس دقيقة ومعقدة تتم أولا داخل كنيسة القيامة، تتكون من الكثير من الصلوات والطواف حول مبنى قبر المسيح قبل أن يدخل بطريرك الروم الأرثوذكس منفردا إلى حجرة الدفن الشهيرة، وقد تجرد من أرديته ودون أن يحمل شيئا بعد أن يتم تفتيشه من قبل ممثل عن السلطة الحاكمة (شرطي)، وتطول إقامته داخل حجرة القبر المعتمة قبل أن يخرج والشعلة بيده.

 

يبدأ الاحتفال باحتشاد الآلاف في كنيسة القيامة والمنطقة المحيطة بها، حيث يصلون من كل البلدان الأرثوذكسية خاصة روسيا واليونان والصرب وأرمينيا، وبعد الصلوات يخرج بطريرك الروم الأرثوذكس بشعلة النار المقدسة من قبر المسيح حيث تمر على المؤمنين فيشعلون منها شمعاتهم وسط الزغاريد والتصفيق والابتهالات والرقص، ثم تنقل الشعلة رمز النور إلى بيت لحم وباقي المدن الفلسطينية،وكذلك عبر الطائرات إلى بعض البلدان الأرثوذكسية خاصة اليونان وروسيا ورومانيا وقبرص، وتستقبل الشعلة في كل مكان بالاحتفالات الدينية والشعبية ومسيرات تشبه تلك التي تتم في القدس.ويعتبر المؤمنون بأن خروج النور هو معجزة تتكرر سنويا ويخرج النور على يد البطريرك.بعد ذلك تبدأ الاحتفالات الشعبية بمسيرة في بعض شوارع القدس تتقدمها الكشافة من مختلف الطوائف، ويقوم الشباب بالغناء والرقص على أنغام الفرق الكشفية وهم يحملون المشاعل، ويغنون "سبت النور وعيدنا". ولهذه المناسبة هتافاتها الخاصة والتي تتضمن متون دينية.ولسبت النور طقوس اجتماعية مرتبطة أيضا بالمأكل والمشرب والحلويات وتجمع العائلة والاحتفال معا. وهو يوم مشهود في القدس، حيث تمتلئ أزقة البلدة القديمة بالقادمين من مختلف أنحاء العالم لمشاهدة أعجوبة النار المقدسة.

 

احتفالات الإسراء والمعراج

 

يعتبر المسلمون الإسراء والمعراج واحدة من أهم المعتقدات الدينية ومعجزة من معجزات النبي محمد، وقد ربطت هذه المعجزة مكة بالقدس، حيث أسري بالرسول ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن هناك عرج به إلى السموات العلى، وأثناء هذه الرحلة فرضت الصلوات الخمس على المسلمين، لذلك فباب السماء في القدس.

يحتفل كل عام بهذه المناسبة باحتفال ديني في المسجد الأقصى، حيث تتلى آيات من القرآن الكريم وتنشد فرق الانشاد الديني أناشيد تصف الحدث ومعانيه، ثم تلقى الكلمات الموضحة لهذه المعجزة. وبعد ذلك تتجمع الفرق الكشفية في ساحات المسجد الأقصى وتبدأ مسيرة كشفية بالطواف في مختلف شوارع البلدة القديمة، وتشارك في ذلك فرق كشفية مسيحية.

وعلى المستوى الاجتماعي يعتبر هذا احتفالا هاما، حيث تقوم العائلات بزيارة بعضها، وتقدم خلالها حلويات خاصة بالمناسبة تسمى مشبك، المصنوع من الطحين والسكر، ويعمل بألوان زاهية أهمها الأصفر والأحمر، وبعد قليه بالزيت يوضع في القطر (السكر المذاب بالماء).

 

شهر رمضان

 

أقدس أشهر العام عند المسلمين، يؤمنون بأنه تنزل فيه القرآن، وهو شهر الصوم، حيث يمتنع المسلم عن الأكل منذ بزوغ الفجر حتى مغيب الشمس، وهو شهر العبادات، وتشترك القدس مع العالم الاسلامي الاحتفال بهذا الشهر.تتزين المدينة بالإضاءة من كل الألوان، ويساهم شباب كل حي القيام بهذه الوظيفة، بل تتبارز الأحياء المختلفة في ذلك. تتحول البلدة القديمة فيه إلى شعلة ملتهبة متعددة الألوان. وعند موعد الإفطار يسمع في القدس طلقة مدفع تهز البلدة القديمة، إيذانا بانتهاء الصوم في كل يوم، وهي عادة استمرت في القدس منذ الفترة العثمانية وحتى اليوم. تتحول أسواق البلدة القديمة في شهر رمضان إلى معرض لكل الطيبات، حيث يزدهر المطبخ المقدسي بتحضير شتى أنواع المأكولات طوال الشهر.

 

وتنتشر في المدينة محلات القطايف، وهي الحلويات المفضلة في هذا الشهر وتختفي بانتهائه، كما تظهر في الأسوق الكثير أنواع الحلويات، كما تنتشر محلات بيع المشروبات وهي السوس والتمر هندي والخروب وشراب اللوز، بحيث لا تخلو منها مائدة. كما تنتشر محلات بيع المخللات والمقبلات. وتظهر البرازق بالسمسم، لتختفي أيضا بعد رمضان. وبالرغم من أن الشهر قد خصص للصيام الا أنه اجتماعيا تحول الى شهر المأكولات الشهية والولائم والسهرات الطويلة.تستعيد القدس حياتها الليلية في شهر رمضان، وتفتح الكثير من المحلات التجارية أبوابها بعد الافطار، وتستمر السهرات حتى السحور، حتى ليبدو للزائر أن المدينة لا تنام.

 

أما في المسجد الأقصى فيرتفع عدد المصلين بشكل كبير حيث يأته المصلون من كافة أنحاء فلسطين، كما أن بعض الشعوب الإسلامية تأتيه إن تمكنتمن ذلك مثل الماليزيين والهنود والإندونيسيين وآخرين.وكانت القدس قبل العام 1967 تزار في هذا الفصل من قبل كل العالم العربي والإسلامي، حتى كانت المدينة تختنق من كثرة الزوار.ويعتكف في رحاب المسجد الأقصىكل ليلة الآلف المصلين الذين يقومون الليل. وعند الإفطار تمد موائد الرحمن لإطعام كل زوار المسجد، حيث يصرف على ذلك المحسنين من فلسطين وخارجها.ينتهي الشهر بعيد الفطر السعيد، الذي يبدأ فور الانتهاء من صلاة العيد في المسجد الأقصى. يستمر العيد لمدة ثلاثة أيام احتفالا بانقضاء شهر الصوم. والعيد مناسبة هامة لتبادل الزيارات الاجتماعية، ويشتهر هذا العديد بالكعك والمعمول.

 

الحج وعيد الأضحى

 

الحج إلى مكة وقضاء المناسك المرتبطة به فرض على كل مسلم قادر ماليا وجسديا مرة واحدة على الأقل في العمر، وهي مناسبة احتفالية هامة، حيث تبدأ بوداع الحجاج وتهنئتهم بنية قضاء فرض ديني، وهناك تهاليل دينية خاصة بالوداع وأخرى خاصة بالاستقبال. وقبل عودة الحجاج تقوم العائلة بالتحضير لاستقبالهم، وكانت في الماضي تسافر إلى تخوم الأراضي الحجازية للاستقبال، أما اليوم فيتم تحضير المنزل بإضاءة محيطه وجدرانه الخارجية، كما توضع اللافتات الترحيبية والتي تحمل اسم الحاج/ـة مع آيات من القرآن الكريم وتصاوير تجمع بين الكعبة وقبة الصخرة. ويمكن مشاهدة هذه اليافطات على شكل جرافتي بالألوان مرسومة على جدران البلدة القديمة على خلفية بيضاءـ تبقى آثارها لسنوات طويلة.

وحال وصول الحجاج إلى بيوتهم سالمين تضاء الأنوار لتدل على بيوتهم، وتأتي كمية كبيرة من أفراد العائلة والأصدقاء والجيران والمعارف وحتى الغرباء لتهنئة الحجاج. ويقدم الحاج لزواره التمر وماء زمزم ومسبحة وأحيانا سجادة صلاة او مطبوعات دينية او طاقية بيضاء، وهي عادة قديمة اعتاد الحجاج القيام بها ابتهالا بعودتهم سالمين من رحلة صعبة وخطرة، لكنها استمرت حتى اليوم بالرغم من أن الطريق إلى مكة لم تعد تحفها المخاطر كما كانت في الماضي، كما أن توزيع هذه الهداية لها قيمة التبرك من البلاد المقدسة.وأثناء صعود الحجاج على جبل عرفة (بالقرب من مكة) يبدأ بنفس اللحظة عيد الأضحى المبارك (العيد الكبير)، وهو أهم أعياد المسلمين، ويستمر أربعة أيام. يضحي مسلمو القدس مثل باقي مسلمي العالم الأضاحي تقربا لله، وعادة ما يتم توزيع لحومها على الأقربين والمحتاجين. وهذا العيد هو مناسبة اجتماعية أيضا حيث تتزاور العائلات ويقدم فيه الكعك والمعمول.